السبت، 21 أكتوبر 2017

كلنا من طين..~

  • طين..~

  • ابن التراب..!                                                                                              

في قصة الاسراء والمعراج عرض جبريلُ عليه السلام على النبي - صلى الله عليه و سلم - اناءً من لبن واناءً من خمر ‘ فاختار النبيُّ - صلى الله عليه و سلم - اللبنَ‘ فقال جبريلُ: ((أَصَبْتَ الفِطْرَةَ‘ أَمّا إنّكَ لَو أَخذتَ الخَمرَ غَوَت أُمّتُكَ))..

الفطرة جاءت مع الانسان الاول‘ وما يشرب الانسان او يأكل يؤثر في مزاجه وشخصيته..فكيف بالمادة الاصلية التي خُلق منها‘ ومنها تكوّن لحمه و عظمه وعصبه واعضاؤه (الطين)؟

الخلق من طين معنى شائع في الكتب السماوية و الثقافات البشرية‘ وثَمَّ ادلة وجدانية في داخلنا تعبِّر عن طينية الانسان‘ يلمسها المرء في انفاسه و مشاعره و احاسيسه و تقلُّباته..

كنا في ظهر ذلك الرجل الاول ‘ و مررنا بمراحل وآلام و اهوال حتى وصلنا هنا ..ولا زالت الرحلة مستمرة.. بمقدورنا اذاً ان ننسى آلامنا فهي عابرة.

اجيال بعد اجيال مرَّت على هذه الارض وانت ما انت فيهم إلَّا ومضة قصيرة.

اجد مراحل الطين في ذاتي ؛ حين تمر بي تحولات الفرح و الحزن ‘ والسعادة والشقاء ‘والسكون و الثروة ‘ واليقين والشَّك ؛ اتذكر الطين الّازب والصّلصال ‘والحَمَأ المسنون..بل اتذكر الماء الذي عُجن به الطين...

وماء الارض فيه الحلو العذب الفرات‘ وفيه الملح الأُجاج‘ وفيه المُر..

ويكشف ذلك التعبير النبوي:((لكُلّ عابِدٍ شَرَّةٌ‘ وَلِكُلّ شَرَّةٍ فَتْرَةٌ))..

نشعر احياناً بالشّة والاندفاع‘ ونشعر احياناً اخرى بالضعف والفتور.

بيت من طين..ذاك هو الانسان‘ وبيوت الطين تُذكّر بالقرية والبساطة والعلاقات الحميمة الطيبة.

سألتُ صديقاً عن شخصٍ ما‘ فقال: لقيته بالأمس‘ وهو غريب الاطوار ‘ تراه اليوم مقبلاً منبسطاً إليكَ‘ ثم تراه من الغد وكأنه لا يعرفك ! إنه متقلب المزاج !

حتى انا مثله ، متردّد بين الحماس والفتور ، والإقبال والإدبار ! القلب يحب حتى يذهل ، ثم يعرض ، ويقدم ثم يُحجم ، ويتسامى ثم ينحط !

مراحل الطين تَمُرُّ بي جميعها ، وانواع الماء ، اجد الحَمَأ المسنون في مسام الجسد فأحتاج لمُعالجته؛ لأشعر بنشوة النظافة وتفثة العطر.

وَ أَجده في مسام الروح فأحتاج للتّهليل والتسبيح والذِكر الأستغفار ؛ لأمحو لحضة غفلة او شرود او إستجابة للنفس الأمارة .

تقع لي مشكلة مع متابع لا يراني إلا متفائلاً مبتسماٍ سعيداٍ حتى ظن أني من طينة غير طينته ..كلا ؛ ولاكني أُظهر الحسن و أستر القبيح !

أهذا خَطَؤُهُ ؟ أَمْ خَطَئي ؟ أَمْ خَطَؤُنا معاٍ ؟

الطين خصب قابل للإنبات..تكوّن فيه الورود و الأزهار والأشجار النافعة ، و تكوّن الأشواك والأشجار السّامة و المُخدّرة..و قد تتجاور هذه و تلكَ ، هكذا نحن فينا التقوى و الفجور ، وفينا الم}من و الكفور..الإنسان خليفة في الأرض ، فأن يكون مخلوقاً من طينها فذلك أدعى لنجاحه في استعمارها ، والغوص في أسرارها ، و معرفة قوانينها ، والضرب فيها.

العمل والكَد و الكدح و (عرق الجبين) ليس عيباً.. إنه سر التميز و الإبداع.

الطين يمنح المرونة والتشكّل والتكيّف مع الظروف والمتغيّرات المناخية والإجتماعية ‘ بخلاف ما لو كان الخَلْق من القَش أو من الصخر ‘ الصخر قاس لا يلين، والقش متفرق لا يلتئم!

الطين يمنح التنوع ‘ الأبيض والأسود وما بين ذلك ، واختلاف الطبائع والميول يثري الحياة ويوسّعها .

عن أبي موسى رضي الله عنه مرفوعاً :((إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَميع الأَرْضِ ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلى قَدْرِ الأَرْضِ ، جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَ الأَبْيَضُ وَ الأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَ السَّهْلُ وَ الحَزْنُ وَ الخَبيثُ وَالطَّيِّبُ))..

كانت العرب تقول : لا تكن يابساً فتُكسر ، ولا ليِّناً فتُعصر.

والطين كذلك جمع بين الليونة والقوة. الطين يوحي بالنهاية:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}.. والنجاح دوماً ممنوح لأولئك الذين يبدؤون العمل وعيونهم على النهاية:((كُنْ فِي الدُّنيا كَأَنَّكَ غَريبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)).

يبقى التراب أصلنا ولو وضعنا قباب الذهب فوق شواهد قبورنا ، وأصررنا على تجاوز البساطة حتى بعد موتنا!

أيها الحزانى : أمواتكم محفوظون في تربتهم؛ التي خُلقوا منها وإليها عادوا، وسوف تلقيهم الرحم مرة أُخرى لميقات يوم معلوم..

إذا جازالتعبير عن الخَلْق الأول بالولادة من الأرض ، فالأرض هي الأم الرَّؤوم الصابرة المتحمِّلة لكل عبثنا وشقاوتنا ، بل وحماقتنا الكبيرة .

هي أملنا وأصلنا ، فلا غرابة أن نتأذَّى يوم أن يستشري على ظهرها الفساد والظلم !

حين  نقترب من التربة التي وُلدنا فيها ومنها وعليها نشعر بالدفء والعافية :((تُربَةُ أَرضِنَا ، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا ، يُشْفَى بِهَا سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)).

وحين نأكل منتجاتها الفطرية الطبيعية السالمة من الدَّخَل نكون أقرب للشفاء والصحة..

ولا غرابة أن نشعر بالخوف إذا ما فارقناها فخضنا لُجَج البحار أو صعدنا أقطار الفضاء!

نحن أبناء التراب نطؤه بأقدامنا لنتعلم التواضع وننفي الكِبْر والخُيَلاء..

وهل يتكَبَّر الإنسان إلا ساعة ينسى أنه طين؟!

نَسِيَ سَاعَةً أَنَّهُ طِينٌ     حَقِيرٌ فَصَالَ تِيْهاٍ وَعَرْبَدْ

وَكَسَى الخَزُّ جِسْمَهُ فَتَباهى     وَحَوَى المَالَ كِيسُهُ فَتَمَرَّدْ

يَا أَخِي لَا تَمِلْ بِوَجْهِكَ عَنِّي     مَا أَنَا فَحْمَةٌ وَلَا أَنْتَ فَرْقَدْ

أَأَمَانيَّ كُلُّهَا مِنْ تُرَابٍ     وَأَمَانِيكَ كُلُّهَا مِنْ عَسْجَدْ؟!

وَأَمَانِيَّ كُلُّهَا مَنْ تُرَابٍ     وَأَمَانِيكَ لِلْخُلُودِ الْمُؤَكَّدْ؟!

مهما صعدنا للفضاء ، وترقَّينا في المعارف ، ودارت رؤوس بعضنا بالكِبْر المعرفي أو المالي أو السلطوي، يطوِّقنا ويجرنا إليه، ويعيدنا لأصلنا الأول !

حين تقارن، قارن أحسن ما فيك بأسوأ ما فيك لترتقي وتسمو، ولا تقارن أحسن ما فيك بأسوء ما عند الآخرين ليظهر تفوقك ونقصهم!

الذين لا ينظرون إلا للجانب السَّئ فيك يشبهون صفة الشيطان يوم نظر إلى أدنى المراحل التي مر بها آدم، مرحلة الحَمَأ المسنون المنتن:{قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}.

كلنا من طين ..~


هناك 3 تعليقات: